حقاً : لِـمَ لا أكتبُ عن كارل ماركس؟ فالأيامُ الإثنا عشرَ الثلجيةُ قد رحلتْ مثل غيومٍ بِيضٍ في بحرٍ أســودَ ، والسنجابُ يعودُ ونقّــارُ الخشبِ ؛ البطُّ الوحشــيُّ يواصلُ هِجــرتَــهُ وحَـمامُ الدَّغْــلِ يعود لينقرَ في البستان … هواءُ ربيعٍ أوّلُ والخيلُ ســترمي عن صهواتِ الخيلِ دثارَ الصوفِ ، وأسمعُ في الفجرِ أغاريدَ لطيرٍ منفردٍ … ………… ………… ………… ستقولُ : وما شأنُ الألــمانيّ ، طريدِ العالَــمِ ، في هذا؟ عجبــاً ! أ وَلَـمْ تعلمْ كيف أحَبَّ الشِّـعرَ ؟ وهل تعرفُ مَـن شـاعرُهُ ؟ ثمّ هنالك أمرٌ : نحن ، الإثـنَـينِ ، هبطْـنا لندنَ في أيّـامٍ تتماثلُ … نحن طريدا حرسٍ ( زُرقِ العيونِ عليها أوجُــهٌ سُــودُ ) . …………….. ……………. ……………. ولماذا لا أكتبُ عن كارل ماركس ؟ قرأتُ بمكتبة المتحف أشعاري ( حيث تكَـوَّنَ رأسُ المالِ ) وبحثتُ طويلاً في لِـسْــتَـرْ سْـكْـوَير Leicester Square لعلِّــي ألقى مـنـزلَــهُ ، وفي ســوهو Soho أيضاً ... وأخيراً أخبرني يوجين كامينكا Eugene Kaminka عن آخر عنوانٍ للثوريّ الألمانيّ ، بلندنَ : 9 Grafton Terrace Maitland Park Hampstead Road Haverstock Hill ( كامينكا ، هو أستاذٌ في تاريخ الأفكار بكانْـبَـيْـرّا ) * لكني لستُ ذكيّـاً مثل وكيل البوليس السريّ الألمانيّ ، ولهذا حتى بعد سنينٍ خمسٍ من أسئلةٍ وطوافٍ لم أعرف أين يقيمُ … ولكنك تسألُـني : أ وَلَـمْ يُدفَنْ في هايجيت Highgate ( أو في المتحفِ ، حسبَ الليدي ثاتشــر ؟ ) فأقولُ : صديقي حَـيٌّ لم يُدفَنْ في هايجيت ، ولا في المتحفِ لكني لم ألْـقَ له أتباعاً ومُـريدينَ هنا ، إني أنتظرُ الآتينَ من الـحَـجَـرِ الأولِ … قُلتُ إذاً سـأُلخِّصُ تقريرَ وكيلِ البوليس السرّيّ الألمانيّ . ملحوظة : A Prussian Police Agent’s Report, Published in G.Mayer, “ Neue Beitrage zur Biographie von Karl Marx" , In Grunberg’s Archiv, Vol.10, pp.56-63. التقـــرير الذي لم يُكتَبْ في الأصل باللغة العربية ماركس متوسط القامة ، عمره 34 سنة ، أخذ شعره يشيب بالرغم من أنه في ريعانه . قويّ البِنية ، تشبه ملامحُـه زيمير Szemere ] رئيس وزراء الحكومة الثورية الهنغارية قصيرة العمر في 1848 ، الذي كان صديقاً لـماركس[ ، لكنّ سحنته أغمق ، كما أن شعره ولحيته أسـودان . الأخير لا يحلق شعره ؛ وفي عينيه الواسعتين النفّاذتين شــيءٌ شيطانيٌّ . لكن المرء يستطيع القول منذ الوهلة الأولى إن هذا الرجل ذو عبقرية وقوّة . إن ذكاءه المتفوق يمارس تأثيراً لا يقاوَم في ما يحيط به . في حياته الخاصة ، لا يحبّ النظام ، مريرٌ ، وسيّء المزاج . إنه يحيا حياة الغجريّ ، حياة مثقفٍ بوهيميّ ، أمّـا الإغتسال والـمَشط وتبديل الثياب فلا يكاد يعرفها إلا نادراً . يستمتع بالشراب . وهو في الغالب لا يفعل شيئاً أياماً وأيّـاماً ، لكن إن كان لديه عملٌ يؤدِّيه اشتغلَ ليلَ نهارَ في مثابرةٍ لا تكِـلُّ . ليس لديه وقتٌ محددٌ للمنام والإستيقاظ . وغالباً ما يسهر الليلَ كلَّـه ، ثم يتمدد على الأريكة بكامل ملابسه حوالَي الظهيرة ، وينام حتى المســاء ، غير عابيءٍ بحقيقة أن العالَـمَ يتحركُ جيئةً وذهاباً في غرفته . زوجته هي أختُ الوزير البروسيّ ، فون ويستفالِـنْ ، وهي امرأةٌ مهذّبةٌ لطيفةُ المعشر ، عوّدتْ نفسَها على هذه العِيشة البوهيمية ، حبّـاً بزوجها ، وهي مرتاحةٌ الآنَ تماماً في هذا البؤس . لديها ابنتان وولدٌ ، والثلاثة حسنو الهندام حقاً ، وعيونهم ذكيةٌ مثل عيني أبيهم . ماركس ، زوجاً وأباً ، أفضل الرجال وأرقُّهم ، بالرغم من شخصيته القلِـقة . يعيش ماركس في حيٍّ من أسوأ أحياء لندن أي من أرخصها . لديه غرفتان . إحداهما تطلّ على الشارع وهي الصالون ، غرفة النوم في الخلف . وليس في الشقّة كلها قطعة أثاث ثابتة نظيفة . كل شيءٍ مكسورٌ ، مهتريءٌ وممزّقٌ ؛ وثمّتَ طبقةٌ ثخينةٌ من الغبار في كل مكانٍ . وفي كل مكانٍ أيضاً الفوضى العظمى. وسط الصالون طاولةٌ ذات طرازٍ عتيقٍ مغطّـاةٌ بمشمَّـعٍ . على هذه الطاولة مخطوطاته ، وكتبه وصحفه ، ثم دُمى الأطفال ، وأدوات زوجته للترقيع والخياطة ، مع عددٍ من الأكواب مثلومة الحافات ، والملاعق القذرة ، والسكاكين والشوكات والمصابيح ، وهناك محبرةٌ ، وكؤوسٌ ، وغلايين فخّار هولندية ، ورماد تبِغٍ – أي أن كل شيء على أسوأ حالٍ ، وعلى الطاولة إيّـاها . إن أدنى الناس سيرتدُّ خجِلاً من هذه المجموعة المرموقة . حين تدخل غرفة ماركس ، يدهمك الدخان وأدخنة التبغ حتى لتدمع عيناك كأنك تتلمّس طريقك في كهف . وبالتدريج ، تعتاد عيناك على الضباب ، وتبدآنِ تميِّـزان أشياءَ قليلةً . كل شيءٍ قذرٌ مغطّى بالغبار . والجلوسُ خطِــرٌ . أحد الكراسي له ثلاث أرجلٍ فقط . وعلى كرسيّ آخر صادفَ أنه متماسكٌ يلعب الأطفال لعبة الطهي . هذا الكرسيّ يقَـدَّمُ إلى الزائر ، لكن طهي الأطفال يظل في مكانه . إنْ جلستَ ضحّيتَ بسروالك. لا شــيء من هذا يضايق ماركس أو زوجته . أنتَ تُستَقبَلُ خيرَ استقبالٍ . ويقَدّمُ لك الغليون والتبِغُ وما سوى ذلك بكل كرمٍ ، كما أن الحديث اللطيف المفعَم بالروح كفيلٌ بالترميم الجزئي للنواقص . بل أن المرء ليعتاد العِشــرةَ ، ويرى هذه الحلْـقةَ مثيرةً للاهتمام وأصيلةً . ها هي ذي الصورة الحقيقية للحياة العائلية للزعيم الشيوعيّ ، ماركس … * هَـــــيْ ! هَـــــــيْ ! هَـــــــــيْ ! أ وَما قلتُ لكم : إنّــا لم نعرفْ كارل ماركس ؟ لندن 7/3/2005
|